مداخلة معاوية الفرجاني
في الندوة الوطنية حول "غربة الكتاب / كتابة الغربة
– نابل 29 و 30 مارس 2013
1-الكتابة : سفر.... ووجع
وغربــة :
قد يذهب في روعنا أنّ فعل الكتابة ... هو فعل إقامة
وإناخة.... فعل سكون في المكان باللّغة ... أو هو رغبة في القرار وفي الكمون ...
كأننا ونحن نخطّ الحروف نثبتها في الصحائف نرجو إمتلاكا للأشياء.... للعلامات...
للكون... هكذا نزعم، أو هكذا نحلم، بينما الحلم بمعكوس صوره يفسّر أحيانا...
الكتابة فعل ظعون ، فعل رحيل وسفر، فعل كالجنون غريب... وفي الغربة وجع واختلاف: "كتب
: الكتاب: معروف، والجمع كتب، وكتب . كتب الشيء يكتبه كتبا وكتابا وكتابة وكتبه
خطّه ، قال أبو النّجم:
أقبلت من عند زيـاد كالـخـرف
تخـطّ رجـلاي بخــطّ مختـلـف
تكـتّـبـان في الطريـق لام ألـــف"
لسان
العرب ، جمال بن منظور– مادة كتب
هكذا الكتابة والخطّ دالاّن لغويّان محمّلان بدوال
السّفر مشحونان بمعاني الرّحيل والاختلاف والوجع... دوال قد تنسف تسليما وإيمانا
بأن فعل الكتابة هو فعل ينسل من رحم الطمأنينة والسكينة ... إنه فعل من رحم الحرقة
والوجع ينسلّ، وإن لم نكن من الظاعنين والرّاحلين...
الكتابة بمنطق التشاكل تثبيت اللهائم... تقييد
للرّاحل.... للرّوح المسافرة دائما ... المكلومة أبدا ...
2-غربــــــة
الأنبيـــاء:
النبوّة رؤيا... وفي الرّؤيا اكتمال للمعنى... اكتمال
للصورة... لذلك كثيرا ما يجابه الناقص – الإنسان العادي – الكامل بالرّفض : يلفظه
كثيرا ما يجابه الناقص –الإنسان العادي – الكامل بالرّفض : يلفظه لفظ النواة،
يصدّه، ويسدّ أذانه بأنامله العشر... يغض بصره عن جمال صوره... وإن سربلتها
القتامة أحيانا...
لذلك نلقي الأنبياء قد اكتووا بنار الغربة وجمرها
وعبّروا عنها فيما بقي من كتبهم وأثار أصواتهم وإن طالها التشويه ومسّها المسخ:
فابراهيم ينذر في رؤيا في منامه أن نسله سيكون غريبا في أرض ليست له، يستعبد ويذلّ
مدة 400 سنة... هي بظاهر المعنى غربة عن الوطن الأصلي وهي غربة بالنبذ والترك
والنسي والإهمال والإضطهاد كما قال داود في بعض اعتذاراته في المزمور 69:8 كذلك هي
غربة المسيح والقدسييين يتركون كل شيء... يدعون رفقة الأشرار ويتحمّلون القذف
والصلب أملا في بثّ أنوارهم ورؤاهم. وبالمثل كانت غربة النبيّ محمّدا في أهله وبين
ظهرانيهم وكانت غربة رؤياه: عن أبي هريرة في صحيح مسلم:"إنّ الإسلام بدأ غريبا
وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء".
وعن سهل بن سعد الساعدي عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: "إنّ الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبي للغرباء: قيل من هم
يا رسول الله؟ قال الذين يصلحون إذا فسد الناس." وفي رواية أخرى قال: ناس
صالحون قليل في ناس سوء كثير ومن يعصهم أكثر ممن يطيعهم." وهي غربة المتصوّفه
العالمة العارفة تدرك بدقيق حدسها وشفيف روحها الجوهر الحق فتكفّر وتدق مسامير
إخمادا لروحها وإسكاتا لصوتها الأزلي... هكذا كان مصير الحلاج وغيره كثر في تاريخ
البشرية: "لا يجب أن ترى لا ينبغي أن تقول رؤياك... تكتبها... وإن فعلت قضي
عليك بأن تكون الغريب ... حكم عليك أن تكتوي بلظى الغربة حيّا أو مصلوبا...
3-غربــــة الفلاسفــــة:
الفلاسفة والمفكّرون كالأنبياء وإذا اختلفت سندات ،
وتباينت منطلقات كتابتهم فعل بحث عن الاتساق والتناغم والجمال والتوازن بين
الأشياء والكائنات التي ترافق الإنسان في الوجود هي فعل يرجو درك الحقائق الأصيلة
في واقع أو جود بعضه ثابت وبعضه متحوّل.... لذلك كان الفعل الفلسفي في جوهره
محكوما بالرّؤيا التي تنشد الاكتمال في كل مرّة... سلاحها الإرباك وإثاره الدّهشة
حتى تجري وراء دهشتنا الأسئلة ... والإرباك في عرف العامّة أو الآخر المسلّم...
أمر مقضي" عليه بالنهي بالحظر ...
لأنه يخض الثابت... يرجّه يزلزله... وخلخلة السندات" فعل مرعب لنفوس
مسكونة بالسكون... لذلك أتّهم "سقراط" بالهرطقة وأدين بسبب تعاليمه
وحوكم بتهمة إفساد الشبيبة وقضى عليه بتجرّع سم الشوكران القائل فقط لأنه كان غريب
القول غريب الكتاب....
وكذا كان حال ابن رشد واحدا . وإن اختلف زمان ومكان لم
يحمه علمه وفقهه من اتهام بالكفر والإلحاد فقط لأنه إشتغل على الفلسفة وفسّر آثار
أرسطو، وأقر بأن لا تعارض بين الدّين
والفلسفة وأن هناك طرقا أخرى لدرك الحقائق المنشودة وفهم الكون وسيرورته [إذ كان
يؤمن بسرمدية الكون، ويحمل تصوّرا مخالفا للذّات البشرية ( قسم ذاتي يتعلق بالذّات
وبشريتها، وقسم إلاهي: يفنى الأوّل ويبقى الثاني خالدا فيهجّر إلى مرّاكش 1198 م بل
تحرق كتبه إخمادا لصوته الإلاهي وبكتاله.
هكذا تحكم دونية الآخر ونقصه على من يرجو ** التمام بالأفول، تدين الكتاب وتقضي قسرا
بغربته...
4-غربـــــة الشعــراء :
كالفلاسفة... كالأنبياء هم الشعراء يكوي حرفهم جمر
الغربة فقط لأنهم مختلفون... يأبون الإئتلاف... عصيّون عن التنميط... أو هم يرفضون
النمذجة فيقضى عليهم بالغربة... بالنفي والنفي في اللّغة إعدام للوجود نقيض له...
إعدام يأخذ شكليـــــن :
أوّلا : شكل الإبعاد والتهجير... فيحكم على الشاعر أن
يغادر أرضا ألف ومراتع أحبّ، وأماكن علق...
تلك حال المتنبّي وهو يقضي عيده غريبا عن أحبته بعيدا:
عيد بأية حال عدت يا عيد ** بما مضى أم لأمر فيك تجديد
أمّا الأحبّة فالبيداء دونهم **
فليت دونك بيدا دونهابيد
وهي حال أبي فراس الحمداني كذلك وهو رهن الأسر في أيدي
الأعداءيبنوء تحت وقر الحبس وثقله ووقر الحنين إلى أم تنأى في المكان عنه وتبتعه:
يا حسرة ما أكاد أحمـلــهـــا ** آخرها مزعــج واوّلهــــا
.
عـلـيـلــة بالشـــام مفردة ** بات بأيدي العدا معلّلها
وهي ذات غربة
شوقي عن مصر وعن ديار مصر في منفاه بإسبانيا سنة 1916، توجّع وألم وتذكّر وحنين:
يا نائح الطلح أشباه عوادينا
نشجى
لواديك أم نأسى لوادينـــا
ماذا تقصّ علينا غير أنّ يـدا
قصّت
جناحك جالت في حواشينــا...
غربة قد تتلبّس بمرارة الألم ... ونفس صادية للأنفاس
الوطن وأشيائه الجميلات بل قد يغدو القبيح
جميلا ولا عجب ما دام من الوطن وفيه: هكذا نطق السيّاب وجعه وتلظّى بجمر غربته عن العراق :
شوق يخضّ دمى إليه كأنّ
كلّ دمى إشتهاء
وجع إليه ... كوجع كلّ
دم الغريق إلى الهواء...
(...) الشمس أجمل في بلادي
من سواها والظلام
حتى الظلام هناك أجمل
فهم يحتضن العراق " (غريب على الخليج)
ثانيـــا :أمّا الشكل الثاني فهو إحساس الشاعر بالغربة
وهو بين ظهراني قومه، وأقدامه ثابتة في مرجل المكان، هي غربة أكثر إيلاما وأشدّ مرارة
لأنه يجد نفسه كالشريد ... محكوم على صوته بالكتم وبه حلم الغناء ... يرجو ترتيل نشيده
فيهدّه النشاز ... تلك كانت حال الأنبياء من الشعراء ممن يمتلكون المعرفة ...
ويحوزون الرّؤيا مهابون ... كأنما المعرفة سمّ يقتل المريدين فيعافون صاحبه
ويرهبون ... كذلك كان أمر المتنبي وهو يرى نفسه صالحا في نشيد قوته وحرصه على تمام
الفعل:
أنــا في أمة تداركهـــا الله **
غريب كصالح في ثـمود
وكذا الشأن بالنسبة للرّومنطيقيين جبلوا على المحبّة ،
فجنوا الجحود صاغوا الرّؤيا فصبّت عليهم حمم التجاهل والنكران...
يا صميم الحياة كم أنا في الدّنيا غريب أشقى بغربة نفسي
بين قوم لا يفهمون أناشيد فؤادي ولا معاني بؤسي.
في وجود مكبّل بقيود تائه في ظلام شك ونخس .
فاحتضني وضمّني لك كالماضي فهذا الوجود علّة يأسي ؟
هي إذن كتابة الغربة
كتابة كلوم وأوجاع، كتابة أنين ... لأنها كتابة مفارقة ، كتابة تنشد التوازن
والتناغم والموسيقى في واقع سمته التناقض .... محكوم بالنّشاز... قضى التسليم فيه
على خلق ... أسرهم القرار وكبّلهم الرّضى بالمقدر من الـمنازل والمراتب... فاحذروا أن تكونوا أنبياء
.... احذروا أن تكونا فلاسفة ... احذروا
أن تكونوا شـعــراء...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق