معابر الجمعية التونسية للفنون والآداب والتثاقف المغاربي المتوسطـي
PASSERELLES Association Tunisienne des Arts, des Lettres et de l'Inter-culturalité Maghreb/Mediterranée

الجمعة، 31 أكتوبر 2014

ملخّص مداخلة لطفي الشابي حول الحماسة في الشعر العربي

الحماسة في الشعر العربي
من تجذير الانتماء إلى مرتكزات السائد
إلى استنفار الوعي الجمعي الحرّ
ملخّص مداخلة الاستاذ الشاعر والروائي لطفي الشابي
في افتتاح نشاط صالون معابر 2014/2015



افتتح صالون معابر يوم السبت 25 أكتوبر الجاري نشاطه للموسم الثقافي الجديد 2014/2015 بمداخلة للشاعر والروائي لطفي الشابي ننشر هنا ملخصها تعمايما للفائدة على تلاميذ الباكالوريا خاصة. 
توزّعت المداخلة قسمين:



·       الأوّل نظريّ يحاول البحث في المفهوم الجامع لكلمة " حماسة " وتوجيه النّظر في المداخل اللّغويّة والاصطلاحيّة وجهة تساعد تلاميذ البكالوريا ( شعبة الآداب ) على استيعاب المسألة على  نحو أيسر وأكثر تأصيلا للمفهوم تأسيسا لانفتاحه على واقع كلّ ما فيه يستدعي هذه النّصوص يبعثها حيّة متوهّجة رغم تقادم العهد بها.
·       والثّاني تطبيقيّ حاول النّظر في النّصوص الحماسيّة المُدرجة في الكتاب المدرسيّ نظرة تراوح بين خصائص القول الشّعريّ عند الشّعراء الثّلاثة  في مستوى المبنى لغة وصورة وإيقاعا وبين المضامين مركّزين  المتشابه الجامع بين الشّعراء والمختلف الذّي يجعل لكلّ شاعر خصوصيّة مع بيان دواعيها ومنطلقاتها.
كما تمثّلت طرافة المبحث في محاولة عقد الصّلة بين القديم والجديد من شعر الحماسة، فاستحضرنا نماذج من شعر الحماسة في شكله الجديد مع ثلاثة شعراء( منوّر صمادح، محمود درويش، احمد فؤاد نجم ) وحاولنا توجيه اهتمام التّلاميذ إلى أنّ الحماسة هي المعنى الذّي ظلّ الشّعراء على اختلاف عصورهم وطبقاتهم يطرقونه لأنّها الغرض الأمّ لكلّ أغراض الشّعر، تأسيسا على ما تقدّم في القسم النّظري وتصديقا لأحكامه. وقد اخترنا عقد الصّلة بين الشّعراء وفق تقاطعات علّلناها بتطابق المضامين حسب المتار من النّصوص، فجمعنا بين أبي تمام ( السّيف أصدق أنباء من الكتب ) ومنوّر صمادح ( ذكرى حشّاد ) ثمّ بين أبي الطيّب المتنبّي ( وا حرّ قلباه ) ومحمود درويش ( عابرون في كلام عابر ) وأخيرا بين ابن هانئ الأندلسيّ ( قد سار بي هذا الزّمان وأوجفا) واحمد فؤاد نجم ( همّا مين واحنا مين؟ )




1 ـ القسم النّظريّ:
يوجّهنا المعنى اللّغوي لكلمة الحماسة إلى مجال الحرب والقتال  والمواجهات في ساحات الوغى. ويرتبط اللّفظ كذلك بالمواقف التي تقترن بالشّدة والحزم والمضاء في الأمور والثّبات عند الشّدائد والملمّـات والصّبر على المكروه والحثّ على طلب الفضائل وصون الأعراض والحرمات والذّود عن الدّين والذبّ عن الأرض وغير ذلك مـمّا يحقّق للإنسان العزّة والمنعة.
غير أنّ المعنى الذّي تداوله الشّعراء وسنّه الباحثون في الشّعر العربيّ انتبهوا إلى تجاوز هذه الحدود الضيّقة التّي يكاد الكتاب المدرسيّ أيضا لا يخرج عنها. ونحن نحاول في هذه المداخلة أن نشير إلى أمر هام وضروريّ إذا أردنا أن نضبط هذا المفهوم ضبطا دقيقا، وهو ارتباط اللّفظ بمفهوم أوسع وأشمل يمنحه قابليّة لاحتضان دلالات عديدة ويؤهّـله لقبول معاني شعريّـة كثيرة تخلو من إشارة إلى الحرب والقتال ونحوهما... إنّه مفهوم الحميّة التي يثيرها في النّفس موقف ما، أو الإثارة التي تحصل للمرء عند سماعه لقول ما يعكس انفعالا ما ويخلق في نفس السّامع نظير ما عاشه قائله لحظة وضعه ذلك القول. لذلك ربّما نجد في المعاجم ما يشير إلى ارتباط مادّة ( حمس ) بمعنى النّار: " والحميس: الشّجاع و الشّديد و التّـنّور " ( محيط المحيط )
لهذا يجوز لنا اعتبار الحماسة ـ بهذا المفهوم ـ المعنى الجامع لجلّ الأغراض والمعاني الشّـعريّة، ذلك أنّ مدار الشّعر عموما هو حديث عن الذّات في مختلف انفعالاتها وحالاتها، أو حديث عن ذات مغايرة في مواقف عديدة وصور شتّى. و تتوزّع هذه المواقف و الحالات إلى نوعين: إمّا أن تكون باعثة على الرّضا محقّـقة للمنشود من السّلوك الإنسانيّ والمحمود من القيم فتمتدح وتشكر، أو أن تكون باعثة على التّـبرّم والضّيق مجسّدة المرفوض من السّلوك الإنسانيّ والمرذول من القيم فتذمّ وتهجى.
ولذلك ـ أيضا ـ سمّي الأدب أدبا، فهو شديد الارتباط في ذهنيّة العربيّ قديما بمعنى التّـأديب وتهذيب النّفس وتربيتها على محمود القيم والخصال والخلل. فلقد كان العرب يحرصون على دفع أبنائهم إلى حفظ الأشعار وروايتها لما في ذلك من منافع معرفيّة ( امتلاك اللّغة و إتقان فنون القول ) وأخلاقيّة ( تمثّل القيم التي دأب العرب على اتّباعها والتي تنظّم علاقاتهم و تسيّر حياتهم ).
ولهذا سمّي مجموع شعر الشّاعر ديوانا، وكذلك يسمّى كلّ كتاب يكون جامعا لأفضل ما قيل في غرض ما، أو لأحسن ما روي في معنى من المعاني الشّعريّة أو غير الشّعريّة، وبهذا التّصوّر وضع أبو تمام كتاب مختاراته المشهور وسمّاه " ديوان الحماسة "، فجعله بهذه التّسمية كتابا جامعا لأفضل ما قيل في مجال الحماسة أو فيما له بها صلة. ولمّا كان هذا الكتاب أوّل مختار من الشّعر عرفه العرب، كان من الضّروريّ الوقوف على مضمونه وقفة من يروم تعرّف حقيقة مفهوم الحماسة كما كان شائعا آنذاك وكما قصد إليه أبو تمام حين وضع كتابه واختار له هذا العنوان.


* ديوان الحماسة لأبي تمام ( ت 231 هـ ) :
هو من أشهر كتب الجمع والاختيار وأقدمها، بل لعلّـه أقدم كتاب من نوعه في تاريخ الأدب العربيّ إذا استثنينا كتاب المفضّليات للمفضّل الضّبيّ ( ت 189 هـ ). وهو كتاب محكم الوضع، لذلك شاع بين النّاس وانتشر ولاقى منذ ظهوره شهرة واسعة وأقبل عليه النّقاد والدّارسون بالبحث والدّرس وأجمعوا على استحسانه وبيان مزاياه وبالغوا في ذلك حتّى ذهب بعضهم إلى اعتبار أبي تمام " أشعر في اختياره منه في أشعاره."
وأبو تمام هو من سمّى كتابه "ديوان الحماسة ". وقد ذهب الدّارسون مذاهب شتّى في تعليل هذه التّسمية لأنّ الكتاب يضمّ عدّة أبواب وما الحماسة إلاّ واحد منها. فاعتبر بعضهم أنّ التّسمية تعود إلى اتّساع باب الحماسة وغزارة مادّته قياسا بسائر أبواب الكتاب، فالحماسة أكبر أبواب الكتاب وأوفرها حظّا من الاختيار وأثراها مادّة... وباب الحماسة كذلك هو أوّل أبواب الكتاب وفاتحته، وتسمية الكتب بأوّلها معروف شائع بين المؤلّفين والمصنّفين... ويرى بعض الدّارسين كذلك أنّ هذه التّسمية إنّما تروم التّقديم والإبراز أي إنّها من باب التّغليب والتّرجيح، ذلك أنّ الحماسة إنّما هي شجاعة العرب وحميّتهم ومضاؤهم في الأمور وحزمهم، وهي أهمّ صفاتهم المقدّمة عندهم، فلا عجب أن يكون شعر الحماسة في الكتاب أحقّ بالتّقديم وأجدر أن يغلّب على سائر المعاني الشّعريّة.
ومهما يكن من أمر، فالأرجح أن تكون التّسمية لغزارة مادّة هذا الباب ولكثرة الأبيات والمقطوعات المختارة فيه ولسبقه في التّرتيب أيضا، وهو ما ترجّحه دائرة المعارف الإسلاميّة في باب "حماسة" (ج 3 ص113 وما يليها ). فالكتاب يضمّ عشرة أبواب هي: الحماسة / الرّثاء / الأدب / التّشبيب / الهجاء / الأضياف والمديح / الصّفات / المسير و النّعاس / الملح / مذمّة النّساء.
يشغل باب الحماسة وحده ما يزيد على ثلث الكتاب ( 325 صفحة ) وفيه 261 قطعة شعريّة من جملة 882 تعدّ 1287 بيتا مع خمسة أشطر وهي لـِ 214 شاعر ( 72 من الجاهليين + 14 من المخضرمين + 62 من الإسلاميّين + 60 من الشّعراء المجهولين + 6 شاعرات )
إنّ النّاظر في كتاب الحماسة يتأكّد أنّ أبا تمام لم ينظر وهو يختار مادّة باب الحماسة إلى موضوعها بقدر ما نظر إلى المراد بها والمقصود منها. فهي من هذه الزّاوية توشك أن تكون موازنة بين ما يحمد من السّلوك وما يستحبّ من المواقف والقيم، وبين ما يستهجن منه و ما يستقبح منها. وهو في الحالين يروم عطف القلوب على القيم الأصيلة و ضمان استمرارها وخلودها وهو من أهمّ وظائف الشّعر وغاياته كما أسلفنا. فليس المقصود بالمديح أو الذّم مثلا مجـرّد الثّناء والهجاء بل المراد الموعظة والتّذكير وتحفيز الهمم وتحريك السّواكن وتوجيه الأنفس إلى المحمود من السّير وتنفيرها من المرذول  منها وتزهيدها فيها. فهي بهذا المفهوم داخلة في الحماسة لأنّها نمط من الإثارة للحميّة وبعث للهمّـة.
*في صلة الحماسة بالملحمة:
لا يرى كثير من الـدّارسين العرب فرقا بين المصطلحين، فما يعرف عند العرب بالحماسة ( جملة المعاني الواردة فيما تقدّم ) يطلق عليه في الأدب الغربي لفظ آخر هو  " الملحمة ". والأدب الملحميّ عند الغرب هو كلّ قصّة شعريّة تروي سيرة أبطال يقومون بأعمال جبّارة، في صياغة أدبيّة رائعة تقوم أساسا على الخيال والمبالغات  ولا تخلو من غنائيّة مؤثّرة وعناصر عجائبيّة مدهشة ومثيرة...
غير أنّ بعض الباحثين حاولوا تخليص المصطلحين من هذا الخلط و التّداخل، فبيّنوا أنّ الصّلة و إن كانت قائمة بين المصطلحين، لا يمكن أن تفضي إلى هذا التّماهي والتّرادف المزعوم. فالملحمة لفظ مشتقّ من مادة ( ل. ح . م ) التي تدلّ لغة على القتال الشّديد و الالتحام العنيف بين المقاتل و قرينه في ساحة الوغى حتّى كأنّهما لحمة واحدة.  فهي بهذا المفهوم تصوير لمشاهد القتال وما يقترن بها من حركة وانفعالات وما يصاحبها من محاورات وما يتخللها من عنف وصخب واضطراب وما تنتهي إليه من حالات وما تخلّفه من آثار محمودة أو مذمومة... وهي قبل كلّ ذلك صياغة أدبيّة محكمة تروم تخليد تلك الواقعة وملامسة ما يعتري النّفس البشريّة من انفعالات توظّف لاستخلاص المواعظ والعبر التي توحي بها تلك الوقائع وتكون متخلّلة لها صادرة عن أبطالها في محاوراتهم التي تسبق المواجهات أو ترافقها أو تعقبها ولذلك في المواقف التي يقفونها والانفعالات التي يصدرونها...
وتحاول دائرة المعارف الإسلاميّة تبرير هذا الخلط فترى أنّ العرب كانوا يرومون البرهنة على أنّ الأدب العربيّ لا يقلّ أهميّة عن سائر الآداب العالميّة التي عرفت هذا الفنّ وتوارثته واعتمدته في تدوين تاريخها وتخليد مآثرها وأبطالها. ولم يكن من الصّعب عليهم أن يظفروا في آدابهم القديمة بالكثير من النّصوص الشّعريّة التي تسرد المغامرات البطوليّة المقترنة بالعجيب والتي لا تخلو من غنائيّة وتخييل ومبالغات... ولعلّ النّفس الذي كانت تروى به تلك المغامرات وتدوّن به تلك السّير ـ رغم اختلاف سياقاتها وتباين دواعي نظمها ـ كان يقرّبها من الملاحم الكبرى الواردة في الآداب العالميّة. غير أنّه كان ينقصها عنصر هامّ حتّى تعتبر فعلا ملحمة حقيقيّة مكتملة العناصر، إنّه عنصر الصّياغة الأدبيّة التي تميّز الأعمال الكبرى في الأدب الملحميّ. فالكثير من السّير الشّعريّة كانت بلا ريب متوفّرة على جلّ عناصر الملحمة، ولكنّها في المقابل كانت تفتقر إلى البناء المتماسك والصّياغة الأدبيّة المنظّمة لأحداثها ومعانيها على نحو يؤسّس لنصّ ذي نسق ولرؤية متكاملة العناصر جليّة المقاصد والأبعاد.
 إنّ الأدب العربي لا يتوفّر على " الملحمة " بمفهومها الحقيقيّ الذي تصوّره بعض الملاحم الإنسانيّة الكبرى كالإلياذة و الأوديسّا اليونانيتين والشاهنامة الفارسيّة، رغم توفّر كلّ مقوّماتها وعناصرها الأساسيّة. ولعلّ من أهمّ دافع هذا الغياب  ـ حسب دائرة المعرف الإسلاميّة ـ هو وعي العرب بتفوّق أشعارهم وتميّز آدابهم، لهذا ربّما ما كانوا يرون حاجة إلى الأخذ عن الأمم الأخرى في مجال يعتبرون أنفسهم قد بلغوا فيه الغاية وأدركوا الكمال. لذلك ربّما لم يحرصوا على تعريب الإلياذة و الأوديسّا وقد عرفوا أدب اليونان وعلومهم، واكتفوا بأخذ ما كانوا يفتقرون إليه من علوم الأمم الأخرى وصناعاتهم في سائر المجالات.
وتذهب دائرة المعارف الإسلاميّة إلى اعتبار بنية القصيدة العربيّة التّقليديّة من أهمّ العقبات التي أدّت إلى غياب الأدب الملحميّ عند العرب. ذلك أنّ تلك القصيدة بقافيتها الموحّدة كانت تحول دون صياغة نصوص مطوّلة منظومة لسرد سير الأبطال وتدوين بطولاتهم وتصوير المعارك والوقائع الحربيّة المخلّدة لأيّام الأمم وتاريخها. ولقد كان بإمكان العرب القدامى توظيف الأرجوزة مثلا واستعمالها لصياغة أدب ملحميّ مكتمل لما توفّره من حريّة في النّظم على مستوى الشّكل لأنّها تحرّر النّاظم من قيد القافية الموحّدة.
والملاحظ إذن أنّ الحماسة هي فنّ شعريّ عرفه العرب منذ القديم، وهو قريب من الملحمة وشديد الصّلة بها، فـمدائح أبي تمام التي قالها في المعتصم أو روميات أبي فراس الحمداني أو سيفيات المتنبّي ( وغيرها ممّا يشابه هذه النّصوص كثير وغالب على الشعر العربي في جلّ أغراضه ) كلّ هذه القصائد تعكس بجلاء نفسا ملحميّا قويّا ولكنّه من الغلوّ اعتبارها قصائد ملحميّة حقيقيّة.


2 ـ القسم التّطبيقي:
حاولنا في القسم التّطبيقي الإشارة السّريعة إلى خصائص القول التّي تميّز كلّ شاعر من شعراء الحماسة قديما وحديثا، ذلك أنّ وجهة المداخلة واختيار الشّكل الذّي ستقدّم به كان يتطلّب المراوحة بين إلقاء النّصوص المختارة والتّمهيد لها بالحديث عن دوافع القول وما يساعد على تمثّل مضمون كلّ نصّ بالعودة إلى ذات الشّاعر وبيان طبعه وثقافته وكلّ ما يخصّ البيئة التّي يتحرّك فيها. وكانت حاولنا الجمع، ولو ببعض التعسّف أحيانا، بين الشّعراء زوجين زوجين، فكان الاختيار على إقامة الصلّة بين نصّي أبي تمّام ( فتح عمّورية ) ومنوّر صمادح ( ذكرى حشّاد ) من باب النّظر في صورة القائد النّموذجي الذّي يتميّز بأرقة درجات البذل كما تُستفاد من معنى الحماسة المذكور في القسم النّظري، والذّي يخدم جانب الدّعوة إلى المثال والإغراء بالقيمة مجسّدة في ذات حيّة تبقى رغم الغياب... أمّا في المستوى الثّاني فقد اهتممنا بعقد الصلّة بين شاعرين عظيمين، المتنبّي ودرويش، وقد حاولنا بيان أوجه التّماثل بين التّجربتين في مستوى تطوّر الوعي بوظيفة الشّاعر  وبما يجب ان يدعو إليه الشّاعر، فكلا الشّاعرين ارتقى من مستوى الحماسة الجهاديّة المستندة إلى قوّة السّلاح وقوّة الإيمان بالسّعي إلى امتلاك الغاية غلابا وإلى بذل النّفس في سبيل تحصيلها، ( شعر الشّباب المتطلّع إلى المجد عند الأوّل وإلى الحريّة عند الثّاني ) إلى وعي جديد مختلف يقيم الفخر بالإنسان مطلقا ويرتكز على العقل والحكمة الدّاعيين إلى مقاربة مختلفة تكاد تنفي الأولى وتسخر من غفلتها وسذاجتها. (  قصائد الحكمة في آخر  حياة المتنبّي وقصائد درويش الأخيرة، سيناريو جاهز نموذجا )
أمّا فيما يتعلّق بالزّوج الأخير  ( ابن هانئ وأحمد فؤاد نجم ) فقد ارتأينا النّظر فيما كتباه من باب الاحتجاج على منظومة حكم مفرّطة في نظر الأوّل ومتواطئة في نظر الثّاني مع محاولة التّذكير بالدّافع الإيديولوجيّ عند الشّاعرين، وهو محدّد مهمّ في توجيه القول الشّعريّ إلى اتّخاذ نظرة مناوئة لا تُفهم إلاّ  حين نتبيّن معالمها وننطلق منها في قراءة النّصين. فابن هانئ في قصيدة "قد سار بي هذا الزّمان" يتوعّد حكّام المشرق والمغرب في بلاد المسلمين ويبشّر بفتح جديد فاطميّ ينتصر للدّين ويذبّ عن حرماته، امّا أحمد فؤاد نجم فإنّ حماسته ( كما تبيّناها في قصيدته " همّا مين وأحنا مين " ) لا تنتصر إلاّ للفئة الفقيرة الكادحة المواظبة على الحلم بالتّغيير والماضية إلى حلمها بكلّ عزم.
وتبقى الإشارة متأكّدة إلى أنّ كلّ ما نقرأ من أشعار الأوّلين والأقدمين ينطوي على حماسة تتفاوت بين الشّعراء من حيث القوّة ودرجة التّأثير ، ولا بدّ من الوعي بأنّ الشّعر العربيّ على امتداد القرن الأخير، وفي مطلع هذا القرن يشهد تطوّرا في نسق التّعبير الحماسيّ وفي درجة عالية من الشّعريّة تقيم الصّلة مع الموروث معنى وتتجاوزه مبنى ومغنى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق